قصر عابدين
متحف يحتضن تاريخ أمة
تم تصوير متحف الأسلحة وتحديثه بإعادة تنسيقه، وعرض محتوياته بأحدث أساليب العرض.
تحتضن أرض مصر العديد من القصور التي شيدت في عصور مختلفة، إلا أن قصر عابدين يُعد أشهرها، لذا كان الاهتمام بإقامة عدة متاحف متخصصة بداخله لعرض ما يحتويه من مقتنيات نادرة تحتل ذاكرة الأمة وتجسد العديد من الأحداث التاريخية, أمرًا ضروريًا.
القاهرة: غادة الترساوي
يرجع اسم القصر إلى «عابدين»، أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي، الذي شرع في تشييد هذا القصر الذي استغرق بناؤه عشر سنوات، ليشغل مساحة قدرها خمسة أفدنة من جملة المساحة الكلية التي تركت معظمها للحدائق، والمتنزهات.
وبعد الانتهاء من تشييد القصر وتأسيسه، انتقل إليه الخديوي إسماعيل عام 1872 مع أسرته، وحاشيته، وخدمه، تاركًا القلعة التي كانت مقرًا للحكم في مصر منذ أن شيدها صلاح الدين الأيوبي عام 1171.
وكان أبناء الخديوي وأحفاده الذين حكموا مصر من بعده مولعين بوضع لمساتهم على القصر، وعمل الإضافات التي تناسب ميول كل منهم وعصره، ومن ذلك ما قام به الملك فؤاد الأول، الذي حكم مصر من عام 1917 حتى عام 1936، فقد خصص بعض قاعات القصر لإعداد متحف لعرض مقتنيات الأسرة من أسلحة، وذخائر، وأوسمة، ونياشين. ثم قام ابنه الملك فاروق باستكمال المتحف، وإضافة الكثير من المقتنيات، وبخاصة الأسلحة بأنواعها، وألحق بالمتحف مكتبة متخصصة في هذا المجال.
متاحف جديدة
وفي التسعينيات من القرن الماضي عاد الاهتمام الرسمي بهذا القصر، فتم ترميمه ترميمًا معماريًا وفنيًا شاملاً، وتم تطوير متحف الأسلحة وتحديثه، بإعادة تنسيقه، وعرض محتوياته بأحدث أساليب العرض، مع إضافة قاعة جديدة، ليصبح بذلك من المتاحف القليلة المتخصصة في هذا المجال، على المستوى العالمي.
كما تم إنشاء ثلاثة متاحف متخصصة أخرى، الأول خاص بمقتنيات الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر.
والثاني تم تخصيصه لمقتنيات أسرة محمد علي، من أدوات وأوانٍ من الفضة، والكريستال، والبللور الملون.. وغيرها من التحف النادرة.
أما المتحف الثالث، فهو متحف الوثائق التاريخية، ويعرض به، لأول مرة، وثائق نادرة ترجع إلى عهد محمد علي وخلفائه حتى الملك فاروق الأول.
وهكذا أصبح قصر عابدين مجمعًا لمتاحف متنوعة، تم ربطها بخط زيارة واحد، يمر، في أجزاء منه، بحدائق القصر البديعة، ما يتيح للزائر المتعتين الثقافية والترفيهية معًا.
باريس.. وأوجيني
للقصر عدة مداخل، أهمها باب باريس، ويقع في وسط السور الشرقي له، وقد أطلق عليه هذا الاسم، لأن الخديوي كان يأمل الانتهاء من تشييد القصر وتأثيثه مع البدء في احتفالات قناة السويس، في 17 نوفمبر 1869، كي يستقبل فيه ضيوفه من ملوك أوروبا، وأمرائها، وفي مقدمتهم الإمبراطورة أوجيني، زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، التي كانت السبب في أن يطلق اسم باريس على الباب تكريمًا لها.
وبمجرد الولوج من هذا المدخل تبدأ الزيارة بساحة عرض مكشوفة، معروض بها مدافع من طرز مختلفة، بعضها صنع في مصر في عهد محمد علي، اصطفت على الطريق الموصل من باب باريس حتى متحف الأسلحة. وبعضها الآخر أوروبي وأمريكي الصنع، يرجع تاريخها إلى القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر.. تفصل بينها مجموعة من الدانات، والقنابل التي كانت تستخدم في المدافع القديمة.
وتقود ساحة المدافع إلى قاعة الرئيس، وهي أول قاعة بمتحف الأسلحة، وتضم أسلحة بيضاء، من سيوف، وخناجر محلاة بالتذهيب، ورقائق الفضة المزخرفة، التي على بعضها كتابات لأدعية، وأشعار.
سيوف من ذهب
ونخرج من قاعة الرئيس لتتلقانا ساحة النافورة، وهي ساحة واسعة، تقع في وسط المتحف، وتتوسطها نافورة جميلة صنعت من المرمر، وزينت جدرانها بزخارف نباتية وهندسية رائعة، وهي من إضافات الملك فؤاد مؤسس المتحف. وعلى جانبيها تماثيل نصفية لكل من محمد علي، والخديوي إسماعيل، والملك فؤاد.
وعلى طرف الساحة الآخر تبدأ جولتنا داخل بقية قاعات المتحف، التي تعكس تطور نوعيات السلاح في الشرق والغرب. وتضم قسمًا للأسلحة البيضاء، وآخر للأسلحة النارية، يشمل الأول مجموعات نادرة أخرجتها أيدي صناع مهرة من بلاد العالمين: الإسلامي، والأوروبي من عصور مختلفة، ومن هذه الأسلحة: فؤوس، ودبابيس قتال، ومطارق، وسيوف، وخناجر، وسكاكين، وأدوات صيد، وسيوف مبارزة معظمها ذات مقبض وغمد من الذهب، أو الفضة، أو مقابض من العاج. وقد استخدم التطعيم بالألماس في كثير منها، إلى جانب الياقوت، والمرجان، والزمرد، والفيروز، حتى أنصال الأسلحة لم يتركها الصانع الفنان دون زخرفة. فعلى بعضها زخارف نباتية أو هندسية دقيقة التنفيذ، وعلى بعضها الآخر كتابات قرآنية، وأسماء أصحاب السلاح، نفذت جميعها بالتكفيت بأسلاك الذهب، أو الفضة.
ومن أشهر هذه القطع، سيف قصير من الذهب الخالص «ياطاقان»، محلى بالميناء الملونة للسلطان العثماني سليم الأول، يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، وسيف لنابليون بونابرت، وآخر عليه اسم الملكة فيكتوريا، وخنجر خاص بالقائد الألماني روميل.
لوحات وتماثيل
ومن خلف هذه الروائع من الأسلحة نلمح من بعيد لوحة مبهرة تشد الأنظار، وقد شغلت حيز الجدار بأكمله، تمثل انتصار ألمانيا على قرية سكيت الفرنسية، في الحرب السبعينية عام 1870، رسمها الفنان الفرنسي الشهير «نوفيا يل»، الذي اشتهر برسم البورتريهات الحربية، ومعارك المدن، واستغرق في رسمها أربعة أعوام، بداية من عام 1871 حتى 1875، واشتراها الملك فاروق من أحد مزادات فرنسا، وهي من أجمل لوحات متاحف القصر، وأغلاها ثمنًا.
ويقابل هذه اللوحة نصب تذكاري رائع، مصنوع من البرونز على قاعدة من الجرانيت، يمثل الملك الألماني «فردريك الثاني»، الذي حكم ألمانيا في الفترة من 1797 حتى1840، وهو يركب جواده، ويحيط به عدد من الفرسان.
سارق الدجاج!
ولأن هذا النصب التذكاري من أهم المعروضات وأجملها، فقد خصصت قاعته للأسلحة النارية، وهي أكبر أقسام المتحف، وتبدأ بقاعة لعرض الأسلحة الشراكية، وهي مجموعة بنادق، أو سلاح شيش، نفذت على شكل عصيّ مما يتوكأ عليها، ومجموعة من السيوف والخناجر المزودة بالمسدسات، فتجمع بين السلاحين الأبيض، والناري معًا، تليها قاعات السلاح الناري التي عرضت حسب تطور جهاز الإطلاق بها. وتضم مجموعات، بعضها يرجع إلى القرنين: السابع عشر والثامن عشر، وتتمثل في البنادق، والغدارات المملوكية والإيرانية، وبعضها الآخر يرجع إلى القرن التاسع عشر تم إنتاجه في مصر، وفي بعض الدول العربية، والإسلامية.
سيف التتويج
بنهاية الجولة داخل أكبر متاحف القصر، يقودنا ممر صغير إلى متحف الأوسمة والنياشين. وعلى الجدران تطالعنا مجموعة من الميداليات والشارات التي كان يستخدمها رجال البلاط الملكي في القصر، ونساؤه، وهي مصنوعة، أيضًا، من الذهب المطعم بالألماس، شأنها شأن بقية التحف المعروضة.
والزائر لهذا القسم يستمتع بمشاهدة التصميمات الرائعة، والتنفيذ الدقيق في صناعة مجموعات الأوسمة والنياشين، التي منحت لأفراد أسرة محمد علي، أو لشخصيات مصرية بارزة.
ويوجد في هذا القسم سيف نادر، مرصع بأحجار كريمة ونصف كريمة، بأحجام مختلفة، وله غمد ومقبض من الفضة المذهبة، وزخارفه محلاة بالمينا الملونة، يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، حين كان في حيازة أباطرة روسيا، ويعدّ أهم قطعة بالمتحف، لذا فقد اشتراه الملك فاروق من أحد المزادات العالمية بألمانيا عام 1948، ودفع 11 ألف جنيه إسترليني، ثمنًا له.
وثائق تاريخية
ومثلما حرص أفراد العائلة المالكة على جمع أوسمتهم، ونياشينهم الثمينة، في متحف خاص، حرصت الحكومة المصرية على تخصيص متحف قائم بذاته لوثائقهم التاريخية المهمة، يعرض به لأول مرة الوثائق الخاصة بأسرة محمد علي، والتي تتضمن فرمانات توليته الصادرة عن السلطنة العثمانية، وحصر الولاية في أفراد أسرته من بعده، وهي مكتوبة بالخط الهمايوني، وهو خط مائل يميز فرمانات السلطان عن غيره من الخطوط.
وعلى الرغم من أن هذا المتحف يعرض وثائق تاريخية مهمة، مثل أول عدد صدر من جريدة «الوقائع المصرية»، ومحضر أول اجتماع لرؤساء العرب وملوكهم بجامعة الدول العربية، والذي تم بدعوة من الملك فاروق في 28 مايو 1946، إلا أنه خلا من الزائرين إلا من بعض الباحثين المتخصصين في دراسة التاريخ.
المتحف الفضي
بالمتحف مقتنيات متنوعة أخرى، مثل: الشمعدانات، وقواعد لأحواض الزهور محلاة بتماثيل رقيقة لأطفال، وحيوانات، وطيور.
وجميع هذه المعروضات، علاوة على قيمتها المادية والتاريخية، تعد تحفًا فنية من نتاج القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد تباينت عليها اللمسات الفنية، كحامل الكؤوس الكبير الذي يشغل معظم القاعة الأخيرة بالمتحف، والذي يزن 43 كجم، وله قاعدة ذات مستويين لحمل 48 كأسًا. ويحيط بالقاعدة 4 نساء أسطوريات، يحملن أطباقًا للحلوى. ويتوسط القاعدة إناء كبير للمشروبات، محلى بزخارف نباتية، وثمار الفاكهة، وله مقبضان، على أحدهما تمثال لسيدة جالسة تمسك بيدها عنقود عنب، وعلى المقبض الآخر تمثال لرجل يشرب من قارورة. وللإناء غطاء له مقبض على شكل تمثال لصياد يمتطي أسدًا، ممسكًا بإحدى يديه عصا، وبالأخرى كأسًا يشرب منها، بينما الأسد ينظر إليه، ممسكًا بقارورة في انتظار أن يفرغ من شرابه، ليملأ له الكأس مرة أخرى.
ختامها عطر
وإلى جوار الأواني الفضية، تعرض القاعة نفسها مجموعة نادرة من أعمال الفنان التشكيلي «إميل جالييه»، وهي تحف من الزجاج الملون على شكل قنينات، وفازات، وزجاجات للعطر، عليها مناظر طبيعية منفذة بالأسلوب البارز، وأغلبها لأشجار، ونخيل، وجبال، وأنهار، وأزهار، تكاد تحاكي الطبيعة، ما يوضح قدرة الفنان البارعة في مجال إخراج هذا الفن التشكيلي الفريد.
ويعرض المتحف، أيضًا، مجموعات من الكريستال الملون، لفتت الأنظار بما تعكسه من ذوق رفيع، ومهارة فائقة، من حيث الأسلوب الصناعي، واللمسات الفنية، التي بذل فيها الفنانون جهدًا فكريًا يعبر عن أحاسيس فنية راقية. فقد مزج الفنان المصمم، في تناسق وتناغم، بين رقة الكريستال والألوان المختارة، فبعضها يتدرج من اللون الفستقي الفاتح إلى الغامق، فاللون النبيتي الفاتح ثم الغامق، في قطعة واحدة، كما هو منفذ في مجموعات من أطقم تخص الخديوي إسماعيل. أو يفصل اللونين: الفستقي والنبيتي الفاتحين، كلاً في مجموعة. والمجموعتان متشابهتان في الشكل والتصميم، ومختلفتان في اللون، كما هو الحال في المجموعة الخاصة بالخديوي عباس حلمي الثاني. أو تظهر الألوان بقعًا مربعة ومستطيلة باللون البنفسجي، مثل مجموعة الأمير يوسف كمال، شقيق الخديوي إسماعيل.